الاستخارة: فن تسليم المنطق البشري للذكاء الإلهي المطلق
تتجاوز صلاة الاستخارة كونها مجرد التماس للدعاء؛ فهي وسيلة روحية عميقة تهدف إلى تسليم المنطق البشري المحدود للذكاء الإلهي المطلق. يقرّ الإنسان من خلال هذه الصلاة بعجزه عن الإحاطة بكل جوانب الأمور، مفوضاً قراره لمن يملك الحكمة الشاملة التي تتخطى حسابات العقل. إنها ممارسة تعيد صياغة علاقة المؤمن بالقرار والقدر، وتمنحه بوصلة لا تخطئ في أشد مفترقات الطرق حيرة
المحور الأول: الاستخارة.. تسليم المنطق البشري للذكاء الإلهي المطلق
تُعتبر الاستخارة بمثابة "فن طلب التوجيه"، حيث تمكّن الفرد من تجاوز حساباته العقلانية الضيقة والارتباط بالإرشاد الإلهي الذي لا يحده زمان أو مكان. يتمحور هذا التسليم حول ركيزتين أساسيتين:
تجاوز حدود العقل البشري: إنها اعتراف ضمني بأن رؤيتنا للأمور ناقصة، وأن مصباحنا اليدوي الصغير يكشف بضع خطوات فقط أمامنا في غابة كثيفة، بينما يمثل الذكاء الإلهي رؤية شاملة من علٍ تعرف المسارات الآمنة والمخارج.
الثقة في النتيجة النهائية: من خلال هذا التسليم، يتشكل اليقين بأن الاختيار مع الله يعني أنه لن يخسر أبداً؛ لأن النتائج، مهما كانت في ظاهرها، هي جزء من تدبير إلهي حكيم يتجاوز التوقعات البشرية البسيطة.
المحور الثاني: كيف تتجلى إجابة الاستخارة؟ المؤشرات الروحية والواقعية
تتجلى إجابة صلاة الاستخارة من خلال مؤشرات روحية وواقعية تأتي كاستجابة للتفويض الإلهي، وتظهر غالباً على شكل علامتين أساسيتين:
الشعور بالسكينة والسلام (المؤشر الروحي): غالباً ما تظهر الإجابة في صورة شعور داخلي عميق بالسلام والارتياح تجاه خيار معين، مما يبدد الحيرة والارتباك. هذه السكينة هي الرد الإلهي الذي يغني الإنسان عن التخبط في التفكير المنطقي المرهق.
التيسير الطبيعي للأمور (المؤشر الواقعي): تتجلى الإجابة واقعياً عندما يبدأ "انفتاح الباب بشكل طبيعي" وتتيسر السبل نحو مسار محدد دون تكلف أو عناء مفرط، وهو ما يعد إشارة للتوجيه الإلهي.
لتشبيه الصورة: يمكن تشبيه إجابة الاستخارة بـ نظام الملاحة (GPS)؛ فأنت تتبع إشاراته، فمنها ما هو "ضوء أخضر" يتمثل في التيسير وراحة الصدر، ومنها ما هو "تنبيه" يظهر في انغلاق الأبواب، وفي كلا الحالتين، أنت واثق أنك ستصل إلى أفضل نتيجة ممكنة.
المحور الثالث: الركائز الروحية: فلسفة الأمان من الخسارة
تقوم الفلسفة الروحية للاستخارة على مجموعة من الركائز التي ترسخ مفهوم الأمان من الخسارة في حياة المؤمن:
الاعتراف بمحدودية العقل: يقوم المفهوم على فكرة تسليم منطقنا البشري المحدود للذكاء الإلهي اللامحدود، فالقبطان يرفع عينيه عن خريطته القديمة المحدودة ويعتمد على النجم الهادي الذي يرى المحيط بأكمله.
السكينة كمقياس روحي: الإجابة لا تُنتظر عبر براهين مادية معقدة، بل هي في الأغلب شعور بالسلام الداخلي يطابق بين حركة الروح والإرادة الإلهية.
اليقين بعدم الخسارة: يعزز هذا التسليم مفهوماً عميقاً وهو أنك لن تخسر أبداً؛ لأن النتيجة التي ستتحقق هي نتاج ذكاء كوني حكيم، مما يزيل عبء الندم أو الخوف من الفشل عن كاهل الإنسان.
الخاتمة
في الختام، تُعد صلاة الاستخارة رحلة من الشك إلى اليقين، تحول عبء اتخاذ القرار من مسؤولية بشرية مرهقة إلى تفويض بثقة مطلقة. إنها ليست طلباً لتغيير القدر، بل قبول بالتوجيه الإلهي الذي يضمن للإنسان دائماً الوصول إلى المرفأ بأمان، حتى لو لم يفهم سر الألوان في اللحظة الراهنة. إن هذا التسليم هو الضمان الحقيقي للسلام الداخلي والأمان من الخسارة.

hm.siddig73@gmail.com