"دعاء أصحاب الكهف: بين الرحمة والرشد في طريق الهداية"
مقدمة
في سورة الكهف، وسط مشهد يغلب عليه الخوف والغموض، يسطع نور دعاء خالد قصير الألفاظ، لكنه عظيم الدلالات. تردده الأرواح كلما ضاقت بها الدنيا أو اختلطت عليها السبل:
"رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا" [الكهف: 10].
إنه ليس مجرد كلمات عابرة، بل منهاج حياة، ورسالة أمل، ووصفة ربانية لمواجهة الفتن والتقلبات. دعاء يجمع بين أمرين أساسيين: الرحمة الخاصة التي تأتي من عند الله، والرشد الذي يوجه الإنسان في اختياراته وقراراته.
أولًا: الرحمة – عطية من لدن الله
قالوا: "آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً".
ولم يقولوا: "آتِنَا رحمة" فقط، بل أضافوا "من لدنك"، وكأنهم يطلبون رحمة خاصة، رحمة خالصة من خزائن الله، لا من الأسباب الظاهرة ولا من جهود البشر.
هذه الرحمة قد تكون:
-
سكينة في القلب رغم العواصف.
-
إلهام وقت الحيرة.
-
مخرج من مأزق لم نكن نرى له حلًا.
-
ستر من بلاء قبل وقوعه.
ليست دائمًا مالًا أو منصبًا، بل قد تكون نعمة خفية تصلح الداخل قبل الخارج. ولهذا يظل طلب الرحمة أساسًا لكل دعاء؛ لأنها هبة إلهية لا تُنال بالجهد وحده، بل بعطاء الله ورحمته.
ثانيًا: الرشد – سداد القرار وحكمة الاختيار
ثم أضافوا: "وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا".
إنهم لا يطلبون فقط أن يعرفوا الحق، بل أن يُيسر الله لهم اتخاذ القرار الصائب والسير فيه بثبات.
الرشد ليس مجرد معرفة الخير، بل هو:
-
القدرة على اختياره في اللحظة المناسبة.
-
التوفيق بين العلم والعمل.
-
التوازن بين الذكاء والحكمة.
وبذلك يصبح الرشد هو الضمانة الحقيقية للنجاة. فهو المفتاح الذي يحمي من التردد والتيه، ويميز بين الباطل المتزيي بزي الحق، والحق الخفي وسط الضباب.
اجتماع الرحمة والرشد
عندما تجتمع الرحمة مع الرشد، يكتمل المعنى:
-
الرحمة تهيئ القلب وتلطف الظروف.
-
الرشد يوجه العقل ويضبط القرارات.
وبذلك يجد الإنسان نفسه على بر الأمان، ليس بقوته ولا بدهائه، بل بتوفيق الله ورعايته.
سياق الدعاء: شباب في مواجهة الظلم
أصحاب الكهف كانوا شبابًا آمنوا بربهم في مجتمع غارق في الفساد والباطل. لم يجدوا حيلة ولا قوة، فلجأوا إلى كهف صغير، وهتفوا بهذا الدعاء العظيم.
لم يطلبوا ملكًا ولا غلبة، بل اكتفوا بطلب الرحمة والرشد. فجاء الجواب الإلهي سريعًا:
"فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا".
أي أن الله منحهم نعمة النوم كأعظم حماية من مواجهة الظلم المباشر. وهنا تتجلى الحكمة: فالحماية قد تأتي بأبسط الوسائل، إذا جاءت برحمة من الله.
لماذا نحتاج هذا الدعاء اليوم؟
في عالمنا الحديث، لسنا أقل حاجة من أصحاب الكهف إلى هذا الدعاء. نحن أيضًا نعيش في "كهوف" من نوع آخر:
-
ضجيج الخيارات والقرارات.
-
فتن متشعبة تلبس ثوب الحكمة.
-
قيم مشوشة ومصالح متناقضة.
-
مفترقات طرق تضغط على كل إنسان.
قد نستشير العقل والخبرة والأصدقاء، وهي وسائل نافعة، لكنها وحدها لا تكفي. لأن التوفيق الحقيقي لا يأتي إلا بالرحمة الخاصة من الله، والرشد الذي يلهمه لنا.
هذا الدعاء يفتح أبوابًا لم نكن نتوقعها، ويبعد عنا شرورًا لم نكن نعلم بوجودها، ويضعنا على مسارات لم تكن تخطر ببالنا.
كيف نجعل الدعاء وردًا يوميًا؟
هذا الدعاء يصلح أن يكون وردًا ثابتًا، خاصة في أوقات:
-
القرارات المصيرية.
-
الضغوط النفسية.
-
المراحل الانتقالية في الحياة.
-
الحيرة والتردد أمام المستقبل.
ردد دائمًا:
"رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً، وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا"
ليس فقط بلسانك، بل بقلبك وعقلك، وبنية صادقة في الاستسلام لله.
الخاتمة: الخروج من الكهف
إن دعاء أصحاب الكهف ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل رمز خالد لكل من يبحث عن مخرج من ضيق الدنيا إلى سعة الله.
كل إنسان يعيش كهفه الخاص، بين خوف وضغط وحيرة، يحتاج أن يردد هذا الدعاء ليجد فيه الطمأنينة والرشد.
فيا من أُغلقت في وجهه الأبواب، ويا من تاه به الطريق، اجعل هذا الدعاء طوق نجاتك، وأيقن أن الله لا يرد من قصده بإخلاص.
"رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً، وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا"
كلمات قليلة… لكن أثرها عظيم، ومفتاح للخروج من كل كهف يضيق على الروح.
✍️ هيثم صديق
hm.siddig73@gmail.com